top of page

قراءة نقدية في القصيدة النثرية الطويلة ( يا فراشة الصدفة) للشاعرة سامية خليفة - لبنان/ بقلم الأديبة فاطمة عبدالله - السويد

Mar 13

6 min read

1

4

0

قراءة نقدية في القصيدة النثرية الطويلة ( يا فراشة الصدفة) للأديبة سامية خليفة .

بقلم فاطمة عبدالله

"قصيدة النثر بين جدلية الذات والهوية وتحولات اللغة: مقاربة أسلوبية وفلسفية"

(Prose Poetry Between the Dialectics of Self and Identity and the Transformations of Language: A Stylistic and Philosophical Approach)


يتميز النص بأسلوب شاعري تأملي عميق يوظف اللغة كأداة لاستكشاف التجربة الإنسانية الوجودية. يتناول ثيمات متعددة، أبرزها الحب، الوحدة، الفقد، والبحث عن المعنى، حيث تتجسد هذه الموضوعات عبر رموز مثل "الفراشة"، "الطيور"، و"الينابيع"، التي تمثل عناصر للتحول والحرية مقابل الألم والضياع.

يُظهر النص انسجامًا مع تقاليد قصيدة النثر الحديثة، حيث لا يعتمد على البنية الوزنية التقليدية، بل يرتكز على الإيقاع الداخلي والصور الاستعارية المكثفة، مما يجعله أقرب إلى تأمل فلسفي وشعري في آنٍ واحد.


التحليل الأسلوبي والجمالي

اللغة والأسلوب ، المجاز والتناص

تعتمد الأديبة على لغة مجازية مكثفة، حيث توظف الاستعارات بشكل عميق لإنتاج دلالات متعددة. على سبيل المثال، "يا فراشةَ الصّدفةِ" تعكس دلالة مزدوجة، تجمع بين الهشاشة والتحرر، مما يخلق تقاطعاً بين الحسي والمجازي.

وفي موضع آخر "تدورين حولي فأدوخُ، اقتربي منّي أكثر، الوحدةُ الممتلئ بها كياني أوعزت لكلّ عناصرِ الطبيعة أن تلوذَ بالصّمت."هنا، تتجلى قوة التصوير في ربط الشعور الداخلي بالمحيط الخارجي، حيث تصبح الوحدة طاغية إلى حد إسكات الطبيعة ذاتها، في تأكيد على عمق الإحساس بالعزلة.

وهكذا، لا تبدو الفراشة مجرد رمز، بل تتحول إلى عنصر متفاعل مع الذات والعالم الخارجي، مما يمنح الصورة بعداً حيوياً ومتحركاً .

يبرز في النص تناص واضح مع المفاهيم الصوفية والفلسفية، خصوصًا في استحضار معنى "الانعتاق" والتحرر من الماديات. هذا يتلاقى مع رؤية ابن عربي حول "التجلي الروحي"، حيث لا تتحقق الذات إلا من خلال العبور من المحدود إلى المطلق. كما يمكن ملاحظة صدى لرؤية بول ريكور عن "الهوية السردية"، حيث يشكل السرد أداة لإعادة تشكيل الذات ضمن سياقات متغيرة.


البعد التاريخي والسياق الثقافي لقصيدة النثر

لا يمكن فهم تحولات قصيدة النثر بمعزل عن سياقها التاريخي والثقافي. فمنذ بداياتها في الأدب الغربي مع بودلير وصولاً إلى تأصيلها العربي في تجارب أدونيس وأنسي الحاج، كانت قصيدة النثر دائمًا انعكاساً لأزمة الهوية والتحولات الفكرية. هذه القصيدة، التي تحررت من الأوزان التقليدية، جاءت كرد فعل على التحولات الحداثية وما بعدها حيث أصبحت أداة للتعبير عن الذات القلقة والواقع المتغير. في هذا السياق، يتجلى نص "فراشة الصدفة" كامتداد لهذه الجدلية، إذ يعيد طرح أسئلة الهوية واللغة، ولكن ضمن رؤية أكثر تأملية تتداخل فيها الأبعاد الفلسفية والتجريب الجمالي، مما يعكس استمرارية التطور الفني لقصيدة النثر في الأدب العربي المعاصر.


الصورة الشعرية، تعدد الأبعاد الرمزية

يغتني النص بصور شعرية مشبعة بدلالات رمزية، حيث تتجلى "الفراشة" كمفهوم مركزي يجمع بين ثنائية الحياة والموت، والتحول والبحث عن الحقيقة. هذا التوظيف الرمزي يتقاطع مع تأملات غاستون باشلار في جماليات المكان، حيث تصبح العناصر الطبيعية انعكاساً للحالة الشعورية للذات.

على نحوٍ مشابه، نجد أن أدونيس يوظف رمزية الطائر في قصيدته هذا هو اسمي، حيث يقول:

"كلّما هبَّتِ الريحُ حملتُني في جناحيْها طيراً "

فالطائر في شعر أدونيس يرمز إلى الحرية والانفلات من قيود الواقع، تماما كما تعكس الفراشة في النص المدروس حالة التحول والانعتاق. إلا أن الفارق الجوهري يكمن في أن أدونيس يجعل الطائر رمزاً لحركة فكرية وتجريدية تتجاوز الفردي إلى الكوني، بينما تتجسد الفراشة في نص" يا فراشة الصدفة " ككيان حسي متأرجح بين الهشاشة والقوة، بين الوجود والفناء.

إضافة إلى ذلك، نلاحظ تشبيه الأرض العطشى بالروح المتعطشة للحقيقة، مما يعكس نزعة وجودية تسعى إلى تجاوز الملموس نحو المطلق، وهي مقاربة تتماهى مع رؤى مارتن هايدغر حول "القلق الوجودي" باعتباره محركاً جوهرياً للذات الباحثة عن المعنى..

الإيقاع والتركيب ،البنية الموسيقية للنص

يُلاحظ في النص إيقاع داخلي يتجلى في التكرار لبعض الجمل مثل "يا فراشةَ الصّدفةِ"، مما يخلق بعداً موسيقياً يعزز التماسك البنيوي. إضافة إلى ذلك، تستخدم الجمل الممتدة ذات التوازي التركيبي، وهو أسلوب شائع في قصيدة النثر، إذ يعكس تدفق الأفكار بشكل أقرب إلى الكتابة التأملية الحرة، مما يذكر بأسلوب سان جون بيرس في قصيدة Anabase

أناباز، حيث تتداخل الفقرات في نسيج شعري متصل.


البعد الفلسفي والنقدي في النص

جدلية الذات والطبيعةو إسقاط داخلي للمعاناة كما ورد في النص "جدائلُ الأشجارِ فككْتُها لأجدَ في ثغراتِ ثناياها بقايا أصداءٍ لأشعارِه المتكسِّرةِ المنبعثةِ من شفتيه."

هذا يعكس كيف تتحول الطبيعة إلى وسيط نفسي يعبر عن الشوق والافتقاد.

يتجلى في النص وعي عميق بالعلاقة الجدلية بين الذات والطبيعة، حيث تتحول الطبيعة إلى فضاء نفسي يعكس التحولات الشعورية. هذا يتقاطع مع رؤية باشلار الذي يرى أن ''الطبيعة ليست مجرد محيط خارجي، بل هي امتداد داخلي للحالة الوجدانية'' ، ويتجلى هذا التوتر الوجودي في قول الاديبة : ''يا مجنونُ عقدَتْ صدمةُ توهانِكَ لساني''، حيث تعكس هذه العبارة لحظة صدمة وجودية تجعل الذات عاجزة عن التعبير، مما يرسخ فكرة الحيرة والتيه كحالة شعورية جوهرية في النص.

لكن هذا البعد التأملي في النص لا يقتصر على الرؤية الفلسفية، بل يكشف أيضاً عن توترات بنيوية تستدعي مقاربة تفكيكية تتجاوز التأويل المباشر. فعلى مستوى البنية، يعتمد النص على مفارقات دلالية، حيث تتقاطع الحرية مع الفقد، والانعتاق مع الضياع، مما يخلق توتراً داخلياً يعكس أزمة الهوية والبحث عن المعنى. كما يمكن تفكيك العلاقة بين الذات واللغة، حيث تظهر اللغة أحياناً كأداة انعتاق، لكنها في مواضع أخرى تبدو مقيدة بقوالب زخرفية تزيد من شعور العزلة والاغتراب. وفقاً لمنهج دريدا، يمكن قراءة هذا النص كمساحة يتحرك فيها المعنى بشكل غير مستقر ، إذ تتكرر بعض العبارات والصور في سياقات متباينة، مما يكشف عن لعبة دلالية تعيد مساءلة المفاهيم التقليدية للهوية والذات.

وهذا الانزياح الدلالي لا يضعف البناء الجمالي للنص، بل يضيف إليه بعداً حركياً يجعل القارئ شريكاً في إعادة تشكيل المعنى .


النزوع الصوفي والانعتاق الروحي

يبرز في النص نزوع واضح نحو التصوف والتجرد من المادية، وهو ما يتقاطع مع مفهوم "الانخطاف الروحي" عند ابن عربي، حيث تتحقق الذات من خلال العزلة والتأمل العميق في الكون. كما يمكن ربط ذلك بفكرة "التجربة الحدّية" عند كارل ياسبرز، حيث لا يدرك الإنسان جوهر وجوده إلا عند الاصطدام بحالات قصوى من الألم أو التأمل الفلسفي ويتجلى هذا المفهوم بوضوح في قول الاديبة : ''أنتَ الآنَ في أحضانِ النّهار، ترفلُ بهجةً فالنّور ينبعثُ من داخلِ الرّوحِ''، حيث يعكس هذا التصور الصوفي فكرة أن النور الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل هو نتيجة صفاء داخلي وانعتاق روحي.

يتوازى هذا النزوع الصوفي مع استلهام أدونيس للتراث الصوفي، لكنه يتخذ عنده بعداً أكثر حداثة، إذ يعيد توظيف المفاهيم الصوفية في سياقات فلسفية وشعرية تتجاوز بعدها الديني. ففي قصيدته كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار، يقول:

"أخرجُ من جسدي خفيفاً، كما يتخفَّفُ الصوفيُّ من الزمنِ، أفتحُ أبواباً للريحِ وأخرى للرؤيا."

يتجلى هنا مفهوم "التجلي" كما طرحه ابن عربي، حيث يصبح العبور بين العوالم فعلاً شعرياً وروحياً في آنٍ واحد. لكن بينما يعتمد أدونيس على تفكيك البنية الصوفية وإعادة تأويلها في سياق حداثي قائم على التحرر من الموروث الديني وإعادة تشكيل الرؤية الصوفية في إطار لغوي وفكري جديد، نجد نص الأديبة سامية( يا فراشة الصدفة) يحافظ على جوهر التجربة الصوفية التقليدية، حيث يظهر الانعتاق الروحي كحالة وجدانية فردية متأصلة في التأمل والاغتراب الوجودي، دون أن ينفصل عن بعده الروحي العميق.

بهذا، يلتقي النص مع تجربة أدونيس في استلهام التصوف، لكنه يتميز عنه بكونه أكثر ارتباطاً بالنقاء الشعوري والتجربة الصوفية الأصيلة، بينما يميل أدونيس إلى بناء رؤية فلسفية أكثر تجريداً ، تعيد صياغة الموروث ضمن مشروع شعري حديث يعتمد على الهدم وإعادة التركيب.

وهكذا، يعيد النص طرح التصوف ليس كموضوع نظري فحسب، بل كحالة شعورية تتجسد في البناء اللغوي والتصويري، مما يجعله تجربة حسية وفكرية في آنٍ واحد.


البعد النقدي الاجتماعي ،جدلية الحرب و الخراب

يشير النص إلى الدمار والألم في سياق الحروب وانهيار الأحلام، مما ينسجم مع النقد الثقافي الذي قدمه إدوارد سعيد في الثقافة والإمبريالية، حيث يناقش كيف يترك العنف أثراً عميقاً على الهوية الثقافية، مما يجعل الإنسان في حالة اغتراب دائم.

كذلك، يمكن ربط هذا الطرح برؤية أنطونيو غرامشي حول "المثقف العضوي"، إذ يعكس النص وعياً نقدياً بأن المثقف ليس مجرد مراقب، بل هو جزء من النضال ضد الخراب. ومع ذلك، يبدو أن النص يعكس صداماً بين الرغبة في المقاومة والإحساس بالعجز أمام واقع مأزوم، وهو ما يتوازى مع "أزمة الحداثة" في الفكر النقدي.


أزمة الكتابة واللغة النقدية: تفكيك الخطاب

في الفقرة الأخيرة، نجد إشارة إلى أزمة الكتابة، حيث تبدو اللغة مسجونة في قوالب زخرفية على حساب الأصالة.

" الصّمتَ مقامي، هنا في صومعتي، لا بدَّ وأن أتشافى من لوثةِ الغثيانِ غرقًا في لججِ التّخلّف."

هذا يربط بشكل مباشر بين تجربة الذات والاغتراب اللغوي والوجودي.

وهذا يتصل بتحليل رولان بارت في درجة الصفر للكتابة، حيث يرى أن اللغة حين تفقد عفويتها تصبح أداة لإعادة إنتاج الأيديولوجيا السائدة بدل أن تكون وسيلة للتحرر.

كما أن فكرة "التلاشي بين الأصالة والقشور" تتصل بمفهوم جاك دريدا في "تفكيك الخطاب"، حيث يؤكد أن اللغة ليست كياناً بريئاً ، بل هي بنية مشبعة بأيديولوجيات خفية، مما يجعل كل كتابة محمّلة بإشكاليات ثقافية. هذا التحليل يتماشى مع التحولات النقدية ما بعد البنيوية، التي تسائل طبيعة الخطاب وعلاقته بالسلطة والمعرفة.

يتجلى هذا الصراع في النص عبر لغة تجمع بين المجاز الكثيف والتكرار، مما يعكس التوتر بين الرغبة في التعبير الحر والقيود البنيوية التي تحد من انفلات المعنى.


نجد في النص ثراء بلاغي وأسلوب شاعري حيث يتميز النص بكثافة المجاز والاستعارات، مما يمنحه طابعاً شعرياً تأملياً .

أيضا هناك عمق فلسفي ونقدي ويتجلى بطرح النص أسئلة وجودية ونقدية تتجاوز المباشرة، مما يمنحه بعدا فكرياً عميقاً.

لا ننسى التوظيف الرمزي المتقن إن الرموز المستخدمة ليست عشوائية، بل تحمل دلالات فلسفية وتأويلية تتقاطع مع النظريات النقدية الحديثة.

يقدم النص نموذجاً لقصيدة النثر الحديثة التي تمزج بين التأمل الذاتي والتحليل الفلسفي والنقد الاجتماعي، حيث تتجلى أزمة الذات المعاصرة في صراعها بين الحلم والانكسار، والحرية والقيود. من خلال أسلوب شاعري كثيف بالصور المجازية وبنية إيقاعية داخلية، يعكس النص قلق الإنسان الحديث في مواجهة التحولات الوجودية والثقافية. بهذه الرؤية، تتجاوز أهميته البعد الجمالي ليصبح وثيقة نقدية تتفاعل بعمق مع قضايا الهوية والكتابة في سياق الحداثة وما بعدها .

إنجاز فاطمة عبدالله/ السويد



Uinted States of America

3/4/2025

Comments

Share Your ThoughtsBe the first to write a comment.
bottom of page